-A +A
عبداللطيف الضويحي
كثيرة هي أوجه الهدر في مجتمعنا بقطبيهِ الرسمي «الحكومي» وغير الرسمي «الشعبي»، بل إنه أصبح سمةً ورمزاً وأيقونةً يرسم من خلالها الصورة الذهنية عن الفرد والمجتمع والدولة ككل.

فمتى يكون الهدر فساداً ومتى يكون الهدرُ ثقافةً اجتماعية تحت عناوين مثل «الكرم» و«السخاء» و«الجود»؟ وهل يكون الهدر ماليا أم أن هناك أوجها أخرى للهدر؟ وهل تكون الحكومة هي سبب الهدر أم أن سبب الهدر هو المواطن؟ أم أن الطرفين يشتركان ويلتقيان بالهدر؟ وهل يكون الهدر المالي سببا أم هو نتيجة؟


لا أحد يشك بأصالة الكرم عند العرب، كقيمة متأصلة يتم التعبير عنها بطرق شتى وتعكس معنى واحدا وهو البذل والعطاء حتى في أحلك ظروفه، وقد وثق ديوان العرب الكرم والسخاء والجود والعطاء والبذل المعنوي والمادي على حد سواء من خلال العديد من القصص والمواقف.

لا أحد يختلف حول هوية الكرم العربي، وحين يختلف فهو بين من يقول بأن الكرم أن تعطي بعض ما تملك، أو كل ما تملك أو أن تعطي أكثر مما تملك.

ما يجعل الكرم كرما هو ارتباطه بالحالة النفسية والاجتماعية والثقافية لمن يتعاطون هذا الكرم نفسيا واجتماعيا وثقافيا. فإن تجاوز هذا الكرم تلك الحالة والظروف والأطراف، يصبح شيئا آخر غير الكرم.

فالكرم الذي تمارسه المؤسسات الحكومية بفعل العاملين فيها على حساب الأنظمة والقوانين مع مؤسسات حكومية أخرى أو مع غيرها هو هدر وليس كرما بل قد يكون فسادا في كثير من الحالات.

الاختلاف الثقافي والحضاري يجعل كثيرا من الدول تنظر لما نسميه كرما بأنه هدر وغباء وفساد وقائمة طويلة من المسميات التي توصم الوطن والمواطن.

بل حتى على مستوى المجتمع، كثيرون يشككون بقيمة ما يقدمه بعضنا من مظاهر استعراضية اجتماعية ومناسبات تحت عنوان الكرم، هي في الحقيقة مفاخرات ووجاهات ومضاهاة وتشاوف ومهايط، تكشف عن عقدة نقص، تتجلى بصورة تحاملنا على لغتنا العربية وتكسيرها لكي يفهمنا من هو أمامنا من غيرالناطقين بالعربية، وتتجلى هذه العقدة التي نسميها «كرم» بتخلينا كعرب عن حقوقنا وتنازلنا عنها أمام الغير حتى لو كان ما نتنازل عنه وطنا بحجم وأهمية فلسطين. كما تتجلى «عقدة الكرم» هذه عند البعض حتى لو اضطر إلى أن يتسلف مبالغ طائلة من الجيران والأقارب والأصدقاء وربما البنوك ما يفوق طاقته ويتجاوز احتمال إمكاناته المالية والاجتماعية فقط لكي يقوم بأداء هذا الكرم المزعوم.

نمارس الهدر كعرب وخاصة كسعوديين انطلاقا من خلفيتنا ربما البدوية أو الصحراوية أو الزراعية التي دائما تنطلق من سعة في الوقت والمكان، فنبالغ بالتعبير عن حبنا وعن حزننا وعن كراهيتنا وعن انتقامنا وعن تسامحنا. فنتوسع بصرفنا المالي ونبالغ ببناء منازلنا ونبالغ بالصرف حد البذخ ونتوسع في التعبير.

لكن الهدر الحكومي أشد وأقسى أثرا وهو ادعى للمساءلات والتحقيقات والاستجوابات.

أليس من أكثر أنواع الهدر سوءا أن يدرس الطلاب أربع سنوات في الجامعة، ليجدوا أنفسهم يعملون في مجالات غير تخصصاتهم؟ أو أن يضطروا أن يعيدوا تأهيل أنفسهم من خلال برامج إعادة التأهيل، ضاربين عرض الحائط السنوات الأربع والتخصصات التي درسوها في الجامعات؟

أليس هدرا أن يدرس الطالب شيئا ويعمل شيئا آخر ويستهويه ويبدع في شيء ثالث آخر؟ وإلا لماذا يعيد الطلاب كل ما تعلموه خلال مراحل التعليم العام نتيجة مستواهم السيئ في أغلب المواد بما في ذلك لغتهم العربية.

أليس هدراً بأن يتم التعامل مع النوعيات المبدعة من المشاريع بنفس الطريقة التي يتم بها التعامل مع الكم من المشاريع التقليدية، وذلك بسبب نظام المشتريات والمناقصات حيث الاكتراث للأسعار الأقل والأذكى فسادا؟

أليس هدرا للوقت والقيمة والأخلاق ما يستهلكه من يطلب خدمة من الأجهزة الحكومية بسبب إما البيروقراطية أو بسبب عدم الاكتراث بالإنتاجية بين الموظفين وعدم توظيف الحكومة الإلكترونية؟

أليس هدرا أن يتم تعيين الشخص المناسب في العمل غير المناسب، وأليس أكثر هدرا أن يكون الشخص المناسب لهذا العمل مكبلا في عمل آخر غير مناسب لقدراته وإمكاناته؟

أليس هدرا أن نناشد المستثمرين للاستثمار داخل المملكة، فيما يهرب المستثمر السعودي إلى دول الجوار ودول ما وراء الجوار؟ أليس هدرا أن نطالب الناس بترشيد استهلاك المياه في منازلهم، فيما نترك الشركات الزراعية الكبرى تستنزف من بسيطاء الجوف ما يعادل ثلاثة أضعاف ما يتدفق به نهر ليبيا العظيم ثلاث مرات؟

أليس هدرا أن نحشر الناس في زوايا استهلاك كهرباء مرتفع التكاليف والإنتاج والاستهلاك، فيما نترك الطاقة البديلة والطاقة الشمسية في بلد أغلب العام لديه شمس صافية؟ أليس هدرا شديدا عدم فتح باب مكافحة الفساد على مصراعيه، وإطلاق يد نزاهة لتطهير الجهاز الحكومي والقطاع الخاص استعدادا لدخول المرحلة القادمة؟.